بعد الإحباط الكبير الذي ولدته نتائج الباكلوريا 2019 لدى أغلب الأسر الموريتانية وكذا المشرفين التربويين؛ من هيئات تدريس، وأجهزة رقابية وأطقم إدارية، بعد ذلك كله صار من اللازم التوقف قليلا لتعميق النقاش حول طبيعة المشكل، لتحديد حجم الخلل ونوعية الحاجة؛
من المعلوم ضرورة في واقع تعليمنا أنه يعاني جدا؛ من زوايا عدة وبمشاكل شتى، صحيح أن محاولات عديدة قيم بها خاصة بعد إعلان سنة التعليم 2015 لكن ذلك ظل جزئيا ومحدود التأثير، وهذا ما كشف عنه هذا الحدث الذي استهللنا به هذا المقال، والذي كشف عن نتائج مخيبة؛ تستدعي إعادة التأمل في سياسة التعليم ؛بشكل عام، وطبيعة المناهج التربوية، التي تحتاج المراجعة الجادة، وإعادة الصياغة؛ استجابة لمتطلبات السوق الملحة والملامسة للحياة اليومية، مع ضرورة الوعي بأهمية المحيط التربوي؛ الذي يحتاج تفعيلا ورعاية خاصة تستدعي التدخل من جوانب عدة، دون أن ننسى التكوين المستمر لما له من أثر إيجابي على المدرسين ثم الدارسين من خلالهم، هذا بالإضافة إلى أهمية إدراك دور لغة الأم ومحوريتها في التعليم –اتفاقا- وسنحاول بسط التفصيل في هذه النقاط قليلا على النحو التالي:
– سياسة التعليم: إن من أهم المرتكزات التي تبنى عليها سياسة تدبير التعليم: استقرار السياسة واستقلال الطرح بكل فنية وتجرد، فمعروف أن الإصلاحات المتكررة قتلتها المحاباة والمجاملة السياسية والارتجالية في التطبيق، وغياب الوسائل الضرورية لتجسيد البرامج وتطبيق التوصيات.. إن من أهم النقاط الضرورية المتعلقة بسياسة التعليم؛ والتي تقتضي تدخلا حازما وحاسما؛ تلك المتعلقة بالاعتماد على *المدرسة الجمهورية* بدل كل التسميات الأخرى الموجودة ( امتياز،عسكرية، نموذجية، عمومية، خصوصية، افتراضية) وهذه الأخيرة كثيرة في المناطق النائية، وتتميز بنفخ أعداد التلاميذ والعزلة عن الوسط التربوي الملائم، ويكثر هذا النوع من المدارس في التعليم الأساسي خاصة، وبالرغم من الأفضلية النسبية لمدارس الامتياز في جودة التعليم، فإن الحل ليس في هذا التقسيم وما ينجم عنه من تباين في المستويات وتنافر في التقييم، فباعتماد مدرسة جمهورية موحدة تختفي معها التسميات والتقسيمات الأخرى، ويتم بها احتواء المدرسة الخصوصية (بسلبياتها الكثيرة وإيجابياتها المحدودة) –خاصة في المرحلة الابتدائية- وإنهاء حقبة طويلة من التذبذب في العطاء وتبادل التهم وذوبان الجهود، وما صاحبه من اضطراب المدرسين في الأداء الوظيفي والالتزام المهني.. قد يقول قائل: ما هو مصير المدرسين في التعليم الخصوصي من غير الموظفين؟ وطبعا الجواب قريب وبسيط جدا؛ فبالإمكان احتواؤهم بالتعاقد مع أصحاب المؤهلات منهم خاصة، وطبعا سيكون المردود في صالحهم وسيكون العطاء في صالح المنظومة التربوية ومن بعدها المجتمع.
-المناهج التربوية: صحيح أنه في الفترة القريبة الماضية تحديدا يوم 27-09-2016 تمت المصادقة خلال اجتماع مجلس الوزراء على إنشاء صندوق لدعم النشر المدرسي وهو القرار الأهم منذ نشأة الجمهورية في هذا المجال، فبموجب هذا الاعتماد يتم لأول مرة إعداد المناهج التربوية وتأليف الكتب المدرسية حتى أخر مرحلة من مراحل الإخراج والتوزيع والإيصال لأيدي التلاميذ في أرض الوطن وبعقول وأياد وطنية؛ ولذلك ماله من قيمة ومعنى ودلالة ومغزى، لارتباطه بالسيادة كباقي الرموز الوطنية، لكن لحد الساعة مازال إنتاج هذه المناهج وتوفير هذه الكتب يحتاج مضاعفة الجهود بعد تكثيف المراجعة والتحيين والمواءمة مع متطلبات الحياة التي تتجدد مع كل إشراق شمس ليوم جديد.
-المحيط التربوي: من المهم جدا إدراك أهمية المحيط التربوي ومراعاة ذلك؛ من أجل أن يكون سندا حقيقيا وحاضنة فعالة تدعم القدرات التربوية وتنمي المكتسبات المعرفية، ولن يكون ذلك باضطلاع أولياء التلاميذ بأدوارهم الرقابية والإشرافية لزيادة تأطير العملية التربوية في محيط الأسرة فقط، بل ينبغي أن يُضاف إلى ذلك تشجيع الأهالي –خاصة في المناطق النائية والهشة- من خلال استهدافهم بمشاريع تنموية سريعة المردود، ولِمَ لا تخصيص رواتب تشجيعية للمحتاجين منهم، وبناء وتوزيع وحدات سكنية قد لا تتعدى عريش من الخرسانة المسلحة؛ لأن كثيرا من سكان هذه المناطق يفضله على البيوت المكتملة عكس الميول السكني لسكان المدن الكبيرة.
-التكوين المستمر: لا يمكن تجاوز المشاكل التي يعاني منها التعليم وخاصة تلك التي ترتبط بالمستويات العلمية للدارسين والمدرسين؛ دون الرجوع إلى تفعيل التكوين المستمر، وهنا أقدم الخطة البسيطة التالية:
إجراء ورشات تكوينية ميدانية على مستوى المقاطعات والبلديات، تستهدف المدرسين بإشراف من المفتشين والمديرين وأصحاب الخبرة والكفاءة من المدرسين، كل أسبوع أو أسبوعين؛ نختار يوم السبت مثلا؛ ثلاث ساعات فقط، للتبادل المعرفي حول جزئية معينة مرتبطة بسير الدرس أو طريقة التطبيق أو المعالجة أو التقويم أو منهجية التصحيح وطبيعة التقييم، في كل أسبوع سيتم تجاوز بعض الصعوبات بالنسبة للمدرسين الذين يعانون هكذا مشاكل فنية أو معرفية، مع التركيز في هذه الورشات على تصحيح بعض الأخطاء الإملائية الشائعة والتي يعاني منها كثير من المدرسين وتنتقل من خلالهم إلى الدارسين بشكل ممنهج –جهلا لا قصدا- وتزيد الطين بلة وتعمق المشكل، هذه الورشات ضرورية وقابلة للتطبيق في مراحل التعليم قبل الجامعي ( الابتدائي، الإعدادي، الثانوي).
-التعلم بلغة الأم: يكتسي التعليم بلغة الأم طابعا خاصا ميزته؛ الانسيابية والفعالية والجدوائية، ولقد أكدت عديد الدراسات والتجارب على أهميته وأوصت به، واعتمد كثير من هذه الدراسات على نماذج من تجارب لدول رائدة عالميا في المجال العلمي والصناعي؛
وبالرغم من أن اللغة حسب خبراء المجال؛ تندرس أو تتغير معالمها كل 500 سنة، فإن اللغة العربية (لغتنا الأم) تعد استثناء، لما ثبت من قدرتها على مواكبة الأزمنة والعصور، بفعل ارتباطها بكتاب الله المحفوظ؛ الذي لا تبديل لكلماته ولا تغيير، وبالرغم من أن الحضارة العربية ككل الأمم مرت بعهود ضعف وانحطاط؛ إلا أن اللغة العربية لم تتأثر بذلك، وظلت كما هي شامخة، تتمتع بميزتها في الاحتواء وقدرتها على الاشتقاق.. وهو ما يقتضي ضرورة إعادة النظر في حجم وطبيعة العناية الممنوحة لها داخل المنظومة التربوية.
طبعا لا يمكن حصر مشاكل التعليم في كتاب واحد أحرى في مقال، وإنما أردنا من خلال هذه السطور تسليط الضوء على بعض النقاط الهامة لإدراكنا لأهمية التعليم في تنمية الشعوب ونهضة الأمم، ولتفاؤلنا بأن التحولات السياسية الأخيرة التي بموجب نتائجها وصل السلطة رئيس جديد حمل شعار التعليم في حملته الانتخابية وتعهد بانتشاله من واقعه المزري، وزيادة الإنفاق عليه؛ (الشيء الذي ينبغي أن ينعكس –أولا قبل أي شي آخر- على الراتب والعلاوات بالزيادة والتحسين)، هذا الشعار الذي حمله الرئيس ولَّد تفاؤلا كبيرا لدى أغلب الموريتانيين، وزاد رغبتنا في الإسهام في هذا المجال، ولو بالرأي والمشورة.